سيبقى الأمرُ مفتوحاً، مفتوحاً بلا انتهاء، كما هي الأرضُ مفتوحة على السماء، وكما الجبال العظيمة تمر على السحاب مرَّ السحاب، وكما هي الأرواح التي عانقت البعيد من سرّ الحياة واستراحت في خيار تحررها، سيبقى الأمرُ جاذباً ومغرياً للتأمّل في الجوانب الكاملة للتفاعلات المتشابكة بين الوحدات اللامتناهية في الزمكان الجزائري، وستبقى المقاربات على تنوعها وتعددها وعمقها مجرّدَ مقاربات، فلا أعقد من مَنهجةِ تلقائيةِ وحيوية النصِّ الأصليِّ للحياة،
سيبقى الأمر مفتوحاً بلا انتهاء، فهو عالَمٌ تغلي فيه الكتلة الكاملة للإنسان والمنظومة الكاملة لجيناته البيولوجية والثقافية والتاريخية وتلك التي تشكل تَفردَه وتَميُّزَه وتصنعُ منه وحدة متسامية عنوانها الكرامة، تأبى بحيثياتها وحدها أيَّ غيرِها، هكذا سبباً أولا، وسبباً أخيرا، عنواناً يشرح ويبرّر ربما كلَّ تفاصيل وتفاسير ذلك الدهر الطويل من الاعتداء عليها، تلك الكرامة، تلك الكينونة الكاملة، فهي لا تقبل أقلَّ من اكتمالها كوحدات الخلق الأولى، فما بالك بها وهي تاج الأشياء ومرادفٌ آخر للروح، فلا نصفَ للروح ولا نصفَ للكرامة، تصبح المسألة أن تكون.. أو لا تكون، وتلك كانت هي المسألة بلسان الحال، متجاوزة للمعنى الشكسبيري والبلورة اللغوية، فهي خلقٌ أوّليٌّ لا شرطَ له ولا قبل،
وهي وِحدةٌ مستقلّة عن الزمان، فكلُّ برهةِ معاناةٍ للكرامة هي كونٌ ودهرٌ وعالمٌ وعنوان، ذلك أنّ ملامحها غيرُ مرهونةٍ بإحداثيات الجسد، وهي لذلك تتجاوزها وتفيض عليها، ما يفسّرُ نزعتها للتخلص من هذه الإحداثيات القامعة إن أصبح الخيارُ خضوعَها لشروطه وقبولها لقيوده حين تستعلي على هذه القيود وتختار انعتاقها منها وتحررها مما يكبلها بشروطٍ تخدشها مرهونةٍ بالحياة، تغادر أغطيتها وتجلياتها المكانية والجسدية والزمانية شاهدةً على جدارتها واستحقاقها لذاتها وعزتها ومجدها واتصالها ببارئها، أوّليةً بلا شرط وناصعةً بلا مقاربة، فلا شيء يمكن أن يدلَّ عليها أو يشهد، بل الأمر أنها تكون الشهيدة الكاملة على المشهد،
وكلُّ زمانٍ وإن طال فهو في مرجعية كرامة الروح لا يُقاس إلا بمدى الجدل بينهما، فمائة وإثنان وثلاثون عاماً تحاولُ أن تخدشَ كرامة الروح هي مجرد جملةٍ بين قوسين بمقياس الكرامة ومقياس الروح، والذين استولوا على هذا الزمان واستدمروه ليسوا في كيمياء الكرامة إلا ''عابرون في كلامٍ عابر''، تستأنفُ بعدها الروحُ روحَها ناصعةً والكرامةُ، كلُّ ما في الأمر أنها تواصل تحررها الذي لم ينقطع حتى إبّانَها، لكن الآن بلا معاناة،
لم يكن الأمرُ إلا مواجهة بين كرامة الروح وبين من أراد إطفاءَ نورها، والظلام فقط هو من أغواهم بالظلم والظلام، بينما النور طافحٌ بالنور لا ينكفئ، وقمعُ الروح ليس إلا تكديس نورها فيها، فالنور لا يفنى ولا يتبدّد، بينما النارُ ليست إلا تجلي فوتونات الأشجار، خمسون عاماً تمرُّ الآن، والمدى مفتوحٌ بلا انتهاء لكلِّ المقاربات، مقاربات التفاصيل في سِفر مجد الكرامة المنتصرة بقوانين ذات الغزاة، إذ كيف يمكن أن ينهزم النور في وجه الظلام،
المسألة عنوانٌ كاملٌ لا يوصف بالكبير ولا بالصغير، لأنه لا يقاس بغيره، ويشكّلُ عالماً ومنظومةً وحده، وبهذا تكون الجزائر إعلاناً مبكراً لكلِّ حالةٍ مشابهةٍ لها في بعضها أو كلّيتها، وقد كان في أكثرَ من مكان، وبهذا يكون استقلالُ الجزائر أيضاً إعلاناً مبكراً لتحرير فلسطين، لأنَّ العنوان هو نفس العنوان، والذين يستغربون جِرسَ هذا المصطلح الآن كان أمثالُهم يستغربون مصطلحَ تحرّرِ الجزائر في زمانٍ ما، لكنَّ المعادلة محسومةٌ بتوقيع الكرامة، والذين أعلنوا أن استقلال الجزائر لا يكتمل إلا باستقلال فلسطين كانوا يدركون المعنى الواحد الذي لا يتجزّأ لكرامة الروح، وأن من يحاولون خدشها ومصادرتها لن يكونوا في حساباتها إلا مجرد ''عابرين في كلامٍ عابر''، وهو التوصيف الذي أعلنه ''درويش'' ليس فقط لوصف الحالة الفلسطينية الآنيّة ولكن أيضاً لتوصيف حال الذين ظنوا أن البرهة القصيرة لعقود احتلالهم الطويلة ستنال من كمالِ الجزائر.